عن عائشة قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم : {
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 7)
قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :
إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَى الله، فاحذروهم. رواه مسلم ـ رحمه الله
قال الإمام النووي ـ رحمه الله: قد اختلف المفسرون والأصوليون وغيرهم في المحكم والمتشابه اختلافًا كثيرًا.
قال الغزالي في (المستصفى): إذا لم يرد توقيف في تفسيره، فينبغي أن يفسر بما يعرفه أهل اللغة، وتناسب اللفظ من حيث الوضع، ولا يناسبه قول من قال: المتشابه: الحروف المقطعة في أوائل السور، والمحكم: ما سواه، والحروف المقطعة في أوائل السور: كـ حم، والم، وطسم، وهكذا، ولا يناسبه أيضًا قولهم: المحكم: ما يعرفه الراسخون في العلم، والمتشابه: ما انفرد الله تعالى بعلمه، ولا قولهم المحكم الوعد والوعيد والحلال والحرام، والمتشابه: القصص والأمثال، فهذا أبعد الأقوال.
قال الغزالي: بل الصحيح أن المحكم يرجع إلى معنيين: أحدهما: المكشوف المعنى الذي لا يَتطرق إليه إشكال واحتمال، والمتشابه: ما يتعارض فيه الاحتمال، والثاني: أن المحكم ما انتظم ترتيبه مفيدًا إما ظاهرًا وإما بتأويل، وأما المتشابه: فالأسماء المشتركة كالقرء، وكالذي بيده عقدة النكاح، وكاللمس، فالأول متردد بين الحيض والطهر، والثاني بين الولي والزوج، والثالث بين الوطء والمس باليد، ونحوها.
قال: ويطلق على ما ورد في صفات الله تعالى مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه، ويحتاج إلى فَهم خاص.
واختلف العلماء في الراسخين في العلم: هل يعلمون تأويل المتشابه، وتكون الواو في: {
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} عاطفةً أم لا؟
فبعضهم قال: إنهم يعلمون تأويلَ المتشابه، وتُقرأ الآية هكذا: {
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أو لَا يعلمون ذلك، وإنما يعلمه الله - سبحانه وتعالى - أما الراسخون في العلم فلا يعلمون تأويله، وهكذا يكون قراءة الآية: {
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}.
وكل واحد من القولين محتمل، واختاره طوائف، قال: والأصح الأول، وأن الراسخين يعلمونه؛ لأنه يبعد أن يخاطب الله عبادَه بما لا سبيل لأحد من الخَلْق إلى معرفته، وقد اتفق أصحابنا وغيرهم من المحققين على أنه يستحيل أن يتكلم الله تعالى بما لا يفيد.
قال الإمام النووي: وفي هذا الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ وأهل البدع، ومن يتبع المشكلات للفتنة، فأما مَن سأل عما أشكل عليه منها؛ للاسترشاد وتلطف في ذلك، فلا بأس عليه، وجوابه واجب، أما الأول فلا يجاب، بل يزجر ويعزر هذا الذي يتبع المشكلات للفتنة، كما عزّر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صُبيغَ بنَ عِسْل، حين كان يتبع المتشابه.
ويقول آخرون: لا مانعَ أن يكون في القرآن الكريم ما لا يدركه عقول البشر، وما استأثر الله بعلمه، كالحكيم إذا صنف كتابًا أجمل فيه أحيانًا؛ ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه، ولو لم يخضع العقل الذي هو أشف البدن، لاستمر العالم في أُبهة العلم، ووصل إلى حد التمرد، فخضوعه يدفعه إلى التذلل لعز الربوبية، والمتشابه هو موضع خضوع العقل لباريه؛ استسلامًا واعترافًا بقصوره.
هذا وإذا كانت الآية الكريمة قد قسمت القرآن إلى مُحكم ومُتشابه، فلا تعارض بينها وبين قوله تعالى: {
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} (هود: من الآية: 1) ولا قوله تعالى: {
كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (الزمر: من الآية: 23) حتى زعم بعضهم أن كله محكم، وعكس آخرون.
نقول: لا تعارضَ بين هذه الآيات؛ لأن المراد بالإحكام في قوله: {
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} الإتقان في النَّظْم، وأن كلها حق من عند الله.
والمراد من المتشابه: كونه يُشبه بعضه بعضًا في حُسن السياق والنظم، وليس المرادُ اشتباهَ معناه على سامعه، فللمحكم معنيان، وللمتشابه معنيان، ولا تعارضَ بين هذه الآيات، والله أعلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم :
إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم. وفي رواية:
فاحذَرْهم بالإفراد، والخطاب لكل من يتأتَّى خطابه، أي: إذا رأيتم الذين يتبعون المشكلات لإثارة الفتنة وبلبلة العقول، فاحذروا مخالطتهم، والاستماع لقولهم.
ربي أعنِّي ولا تُعن عليَّ